فصل: الأية رقم ‏(‏ 80 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏للذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ أي لهؤلاء الواصفين لله البنات ‏}‏مثل السوء‏}‏ أي صفة السوء من الجهل والكفر‏.‏ وقيل‏:‏ هو وصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد‏.‏ وقيل‏:‏ أي العذاب والنار‏.‏ ‏}‏ولله المثل الأعلى‏}‏ أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد؛ قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ أي الصفة العليا بأنه خالق رازق قادر ومجاز‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏مثل السوء‏}‏ النار، و‏}‏المثل الأعلى ‏}‏شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ ليس كمثله شيء‏.‏ وقيل‏{‏ولله المثل الأعلى‏}‏ كقوله‏{‏الله نور السماوات والأرض مثل نوره‏}‏النور‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه وقد قال‏{‏فلا تضربوا لله الأمثال‏}‏النحل‏:‏ 74‏]‏ فالجواب أن قوله‏{‏فلا تضربوا لله الأمثال‏}‏ أي الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص؛ أي لا تضربوا لله مثلا يقتضي نقصا وتشبيها بالخلق‏.‏ والمثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا‏.‏ ‏}‏وهو العزيز الحكيم‏}‏ تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم‏}‏ أي بكفرهم وافترائهم، وعاجلهم‏.‏ ‏}‏ما ترك عليها‏}‏ أي على الأرض، فهو كناية عن غير مذكور، لكن دل عليه قوله‏{‏من دابة‏}‏ فإن الدابة لا تدب إلا على الأرض‏.‏ والمعنى المراد من دابة كافرة، فهو خاص‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالآية العموم؛ أي لو أخذ الله الخلق بما كسبوا ما ترك على ظهر هذه الأرض من دابة من نبي ولا غيره؛ وهذا قول الحسن‏.‏ وقال ابن مسعود وقرأ هذه الآية‏:‏ لو أخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في حجرها، ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل؛ كما قال‏{‏ويعفو عن كثير‏}‏الشورى‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ‏}‏فإذا جاء أجلهم‏}‏ أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم‏.‏ أو الوقت المعلوم عند الله عز وجل‏.‏ وقرأ ابن سيرين ‏}‏جاء آجالهم‏}‏ بالجمع وقيل‏{‏فإذا جاء أجلهم‏}‏ أي فإذا جاء يوم القيامة‏.‏ والله أعلم‏.‏ ‏}‏لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏ وقد تقدم‏.‏ فإن قيل‏:‏ فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم‏؟‏ قيل‏:‏ يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم‏)‏‏.‏ وعن أم سلمة وسئلت عن الجيش الذي يخسف به وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يعوذ بالبيت عائذ فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم‏)‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته‏)‏‏.‏ وقد أتينا على هذا المعنى مجودا في ‏}‏كتاب التذكرة‏}‏ وتقدم في ‏}‏المائدة‏}‏ وآخر ‏}‏الأنعام‏}‏ ما فيه كفاية، والحمد لله‏.‏ وقيل ‏}‏فإذا جاء أجلهم‏}‏ أي فإذا جاء يوم القيامة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم 62 ‏)‏

‏{‏ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويجعلون لله ما يكرهون‏}‏ أي من البنات‏.‏ ‏}‏وتصف ألسنتهم الكذب‏}‏ أي وتقول ألسنتهم الكذب‏.‏ ‏}‏الكذب‏}‏ مفعول ‏}‏تصف‏}‏ و‏}‏أن‏}‏ في محل نصب بدل من الكذب؛ لأنه بيان له‏.‏ وقيل‏{‏الحسنى‏}‏ الجزاء الحسن؛ قال الزجاج‏.‏ وقرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن ‏}‏الكذب‏}‏ برفع الكاف والذال والباء نعتا للألسنة؛ وكذا ‏}‏ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب‏}‏النحل‏:‏ 116‏]‏‏.‏ والكذب جمع كذوب؛ مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر‏.‏ ‏}‏أن لهم الحسنى‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هو قولهم أن لهم البنين ولله البنات‏.‏ ‏}‏لا جرم أن لهم النار‏}‏ قال الخليل‏{‏لا جرم‏}‏ كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا؛ يقال‏:‏ فعلوا ذلك؛ فيقال‏:‏ لا جرم سيندمون‏.‏ أي حقا أن لهم النار‏.‏ ‏}‏وأنهم مفرطون‏}‏ متركون منسيون في النار؛ قاله ابن الأعرابي وأبو عبيدة والكسائي والفراء، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد‏.‏ وقال ابن عباس وصعيد بن جبير أيضا‏:‏ مبعدون‏.‏ قتادة والحسن‏:‏ معجلون إلى النار مقدمون إليها‏.‏ والفارط‏:‏ الذي يتقدم إلى الماء؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا فرطكم على الحوض‏)‏ أي متقدمكم‏.‏ وقال القطامي‏:‏

فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد

والفراط‏:‏ المتقدمون في طلب الماء‏.‏ والوراد‏:‏ المتأخرون‏.‏ وقرأ نافع في رواية ورش ‏}‏مفرطون‏}‏ بكسر الراء وتخفيفها، وهي قراءة عبدالله بن مسعود وابن عباس، ومعناه مسرفون في الذنوب والمعصية، أي أفرطوا فيها‏.‏ يقال‏:‏ أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشر‏.‏ وقرأ أبو جعفر القارئ ‏}‏مفرطون‏}‏ بكسر الراء وتشديدها، أي مضيعون أمر الله؛ فهو من التفريط في الواجب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم‏}‏ أي أعمالهم الخبيثة‏.‏ هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن من تقدمه من الأنبياء قد كفر بهم قومهم‏.‏ ‏}‏فهو وليهم اليوم‏}‏ أي ناصرهم في الدنيا على زعمهم‏.‏ وقيل‏{‏فهو وليهم‏}‏ أي قرينهم في النار‏.‏ ‏}‏اليوم‏}‏ يعني يوم القيامة، وأطلق عليه اسم اليوم لشهرته‏.‏ وقيل يقال لهم يوم القيامة‏:‏ هذا وليكلم فاستنصروا به لينجيكم من العذاب، على جهة التوبيخ لهم‏.‏ ‏}‏ولهم عذاب أليم‏}‏ في الآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما أنزلنا عليك الكتاب‏}‏ أي القرآن ‏}‏إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه‏}‏ من الدين والأحكام فتقوم الحجة عليهم ببيانك‏.‏ وعطفك ‏}‏هدى ورحمة‏}‏ على موضع قوله‏{‏لتبين‏}‏ لأن محله نصب‏.‏ ومجاز الكلام‏:‏ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا تبيانا للناس‏.‏ ‏}‏وهدى ورحمة لقوم يؤمنون‏}‏ أي رشدا ورحمة للمؤمنين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 65 ‏)‏

‏{‏والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والله أنزل من السماء‏}‏ أي السحاب‏.‏ ‏}‏ماء فأحيا به الأرض بعد موتها‏}‏ عاد الكلام إلى تعداد النعم وبيان كمال القدرة‏.‏ ‏}‏إن في ذلك لآية‏}‏ أي دلالة على البعث على وحدانيته؛ إذ علموا أن معبودهم لا يستطيع شيئا، فتكون هذه الدلالة‏.‏ ‏}‏لقوم يسمعون‏}‏ عن الله تعالى بالقلوب لا بالآذان؛ ‏}‏فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏}‏الحج‏:‏ 46‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 66 ‏)‏

‏{‏وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن لكم في الأنعام لعبرة‏}‏ قد تقدم القول في الأنعام، وهي هنا الأصناف الأربعة‏:‏ الإبل والبقر والضأن والمعز‏.‏ ‏}‏لعبرة‏}‏ أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته‏.‏ والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه ‏}‏فاعتبروا‏}‏الحشر‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شيء‏.‏ ومن أعظم العبر بريء يحمل مذنبا‏.‏

قوله تعالى‏{‏نسقيكم‏}‏ قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سقى يسقي‏.‏ وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة‏.‏ قيل‏:‏ هما لغتان‏.‏ وقال لبيد‏:‏

سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال

وقيل‏:‏ يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته؛ قال ابن عزيز، وقد تقدم‏.‏ وقرأت فرقة ‏}‏تسقيكم‏}‏ بالتاء، وهي ضعيفة، يعني الأنعام‏.‏ وقرئ بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل‏.‏ والقراء على القراءتين المتقدمتين؛ ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير‏.‏

قوله تعالى‏{‏مما في بطونه‏}‏ اختلف الناس في الضمير من قوله‏{‏مما في بطونه‏}‏ على ماذا يعود‏.‏ فقيل‏:‏ هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث‏.‏ قال سيبويه‏:‏ العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه‏.‏ وقيل‏:‏ لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال‏:‏ هو الأنعام وهي الأنعام، جاز عود الضمير بالتذكير؛ وقال الزجاج، وقال الكسائي‏:‏ معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور؛ وقد قال الله تعالى‏{‏إنها تذكرة، فمن شاء ذكره‏}‏عبس‏:‏ 11 - 12‏]‏ وقال الشاعر‏:‏

مثل الفراخ نتفت حواصله

ومثله كثير‏.‏ وقال الكسائي‏{‏مما في بطونه‏}‏ أي مما في بطون بعضه؛ إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الأنعام والنعم واحد، والنعم يذكر، ولهذا تقول العرب‏:‏ هذا نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال‏{‏نسقيكم مما في بطونها‏}‏المؤمنون‏:‏ 21‏]‏ وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما حسنا‏.‏ والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين‏.‏

استنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال‏:‏ إنما جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم؛ لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس ‏(‏فللمرأة السقي وللرجل اللقاح‏)‏ فجرى الاشتراك فيه بينهما‏.‏ وقد مضى‏.‏

قوله تعالى‏{‏من بين فرث ودم لبنا خالصا‏}‏ نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم‏.‏ والفرث‏:‏ الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج لم يسم فرثا‏.‏ يقال‏:‏ أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم؛ فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق، وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش؛ ‏}‏حكمة بالغة فما تغن النذر‏}‏القمر‏:‏5‏]‏‏.‏ ‏}‏خالصا‏}‏ يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ خالصا بياضه‏.‏ قال النابغة‏:‏

بخالصة الأردان خضر المناكب

أي بيض الأكمام‏.‏ وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة‏.‏

قال النقاش‏:‏ في هذا دليل على أن المني ليس بنجس‏.‏ وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال‏:‏ كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا كذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهرا‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع‏.‏ اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة؛ وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه‏.‏

قلت‏:‏ قد يعارض هذا بأن يقال‏:‏ وأي منة أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم؛ وقد قال تعالى‏{‏يخرج من بين الصلب والترائب‏}‏الطارق‏:‏ 7‏]‏، وقال‏{‏والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة‏}‏النحل‏:‏ 72‏]‏ وهذا غاية في الامتنان‏.‏ فإن قيل‏:‏ إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا‏:‏ هو ما أردناه، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر؛ وقد قيل‏:‏ إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة؛ فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قال العلماء‏.‏ فإن قيل‏:‏ أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر‏.‏ وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري‏.‏ قال الشافعي‏:‏ فإن لم يفرك فلا بأس به‏.‏ وكان سعد بن أبي وقاص يفرك المني من ثوبه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد ثبت عن عائشة أنها قالت‏:‏ كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه‏.‏ قلنا‏:‏ يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالأشياء التي تزال من الثوب كالنجاسة، ويكن هذا جمعا بين الأحاديث‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال مالك وأصحابه والأوزاعي‏:‏ هو نجس‏.‏ قال مالك‏:‏ غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا، وهو قول الكوفيين‏.‏ ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم‏.‏ واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة‏.‏ وعلى هذين القولين في نجاسة المني وطهارته التابعون‏.‏

في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به؛ لأنه مانع طاهر حصل في وعاء نجس، وذلك أن ضرع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس‏.‏ فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال‏:‏ إن الإنسان طاهر حيا وميتا فهو طاهر‏.‏ ومن قال‏:‏ ينجس بالموت فهو نجس‏.‏ وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة؛ لأن الصبي قد يغتذي به كما يغتذي من الحية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم‏)‏‏.‏ ولم يخص‏.‏

قوله تعالى‏{‏سائغا للشاربين‏}‏ أي لذيذا هينا لا يغص به من شربه‏.‏ يقال‏:‏ ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق، وأساغه شاربه، وسغته أنا أسيغه وأسوغه، يتعدى، والأجود أسغته إساغة‏.‏ يقال‏:‏ أسغ لي غصتي أي أمهلني ولا تعجلني؛ وقال تعالى‏{‏يتجرعه ولا يكاد يسيغه‏}‏إبراهيم‏:‏ 17‏]‏‏.‏ والسواغ - بكسر السين - ما أسغت به غصتك‏.‏ يقال‏:‏ الماء سواغ الغصص؛ ومنه قول الكميت‏:‏

فكانت سواغا أن جئزت بغصة

وروي أن اللبن لم يَشرَق به أحد قط، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال‏:‏ إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار‏.‏ وفي الصحيح عن أنس قال‏:‏ لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله‏:‏ العسل والنبيذ واللبن والماء‏.‏ وقد كره القراء أكل الفالوذج واللبن من الطعام، وأباحه عامة العلماء‏.‏ وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار، فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله، فقال له الحسن‏:‏ كل فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا‏.‏

روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه‏.‏ وإذا سقي لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذي به الإنسان وتنمي به الجثث والأبدان، فهو قوت خلي عن المفاسد به قوام الأجسام، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الأمة التي هي خير الأمم أمة؛ فقال في الصحيح‏:‏ ‏(‏فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت أمتك‏)‏‏.‏ ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات والبركات؛ فهو مبارك كله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن ثمرات النخيل‏}‏ قال الطبري‏:‏ التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون؛ فحذف ‏}‏ما‏}‏ ودل على حذفه قوله‏{‏منه‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المحذوف شيء، والأمر قريب‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏منه‏}‏ أي من المذكور، فلا يكون في الكلام حذف وهو أولى‏.‏ ويجوز أن يكون قوله‏{‏ومن ثمرات‏}‏ عطفا على ‏}‏الأنعام‏}‏؛ أي ولكم من ثمرات النخيل والأعناب عبرة‏.‏ ويجوز أن يكون معطوفا على ‏}‏مما‏}‏ أي ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات‏.‏ ‏}‏سكرا‏}‏ السكر ما يسكر؛ هذا هو المشهور في اللغة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر‏.‏ وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يؤكل ويشرب حلالا من هاتين الشجرتين‏.‏ وقال بهذا القول ابن جبير والنخعي والشعبي وأبو ثور‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن السكر الخل بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ السكر العصير الحلو الحلال، وسمي سكرا لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ أسَدُ هذه الأقوال قول ابن عباس، ويخرج ذلك على أحد معنيين، إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر، وإما أن يكون المعنى‏:‏ أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم، وما أحل لكم اتفاقا أو قصدا إلى منفعة أنفسكم‏.‏ والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر فتكون منسوخة؛ فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء، وتحريم الخمر مدني‏.‏

قلت‏:‏ فعلى أن السكر الخمر أو العصير الحلو لا نسخ، وتكون الآية محكمة وهو حسن‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الحبشة يسمون الخل السكر، إلا أن الجمهور على أن السكر الخمر، منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو رزين والحسن ومجاهد وابن أبي ليلى والكلبي وغيرهم ممن تقدم ذكرهم، كلهم قالوا‏:‏ السكر ما حرمه الله من ثمرتيهما‏.‏ وكذا قال أهل اللغة‏:‏ السكر اسم للخمر وما يسكر، وأنشدوا‏:‏

بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر

والرزق الحسن‏:‏ ما أحله الله من ثمرتيهما‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله ‏}‏تتخذون منه سكرا‏}‏ خبر معناه الاستفهام بمعنى الإنكار، أي أتتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا الخل والزبيب والتمر؛ كقوله‏{‏فهم الخالدون‏}‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏ أي أفهم الخالدون‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ السكر الطعم؛ يقال‏:‏ هذا سكر لك أي طعم‏.‏ وأنشد‏:‏

جعلت عيب الأكرمين سكرا

أي جعلت ذمهم طعما‏.‏ وهذا اختيار الطبري أن السكر ما يطعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد؛ مثل ‏}‏إنما أشكو بثي وحزني إلى الله‏}‏يوسف‏:‏ 86‏]‏ وهذا حسن ولا نسخ، إلا أن الزجاج قال‏:‏ قول أبي عبيدة هذا لا يعرف، وأهل التفسير على خلافه، ولا حجة له في البيت الذي أنشده؛ لأن معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس‏.‏ وقال الحنفيون‏:‏ المراد بقوله‏{‏سكرا‏}‏ ما لا يسكر من الأنبذة؛ والدليل عليه أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز، وعضدوا هذا من السنة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏حرم الله الخمر بعينها والسكر من غيرها‏)‏‏.‏ وبما رواه عبدالملك بن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الركن، ودفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديدا فرده إلى صاحبه، فقال له حينئذ رجل من القوم‏:‏ يا رسول الله، أحرام هو‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏علي بالرجل‏)‏ فأتى به فأخذ منه القدح، ثم دعا بماء فصبه فيه ثم رفعه إلى فيه فقطب، ثم دعا بماء أيضا فصبه فيه ثم قال‏:‏ ‏(‏إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء‏)‏‏.‏ وروي أنه عليه السلام كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم، فإذا كان من اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخادم إذا تغير، ولو كان حراما ما سقاه إياه‏.‏ قال الطحاوي‏:‏ وقد روى أبو عون الثقفي عن عبدالله بن شداد عن ابن عباس قال‏:‏ حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب، خرجه الدارقطني أيضا‏.‏ ففي هذا الحديث وما كان مثله، أن غير الخمر لم تحرم عينه كما حرمت الخمر بعينها‏.‏ قالوا‏:‏ والخمر شراب العنب لا خلاف فيها، ومن حجتهم أيضا ما رواه شريك بن عبدالله، حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون قال قال عمر بن الخطاب‏:‏ إنا نأكل لحوم هذه الإبل وليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ‏.‏ قال شريك‏:‏ ورأيت الثوري يشرب النبيذ في بيت حبر أهل زمانه مالك بن مغول‏.‏ والجواب أن قولهم‏:‏ إن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده ولا يكون امتنانه إلا بما أحل فصحيح؛ بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر كما بيناه فيكون منسوخا كما قدمناه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إن قيل كيف ينسخ هذا وهو خبر والخبر لا يدخله النسخ، قلنا‏:‏ هذا كلام من لم يتحقق الشريعة، وقد بينا أن الخبر إذا كان عن الوجود الحقيقي أو عن إعطاء ثواب فضلا من الله فهو الذي لا يدخله النسخ، فأما إذا تضمن الخبر حكما شرعيا فالأحكام تتبدل وتنسخ، جاءت بخبر أو أمر، ولا يرجع النسخ إلى نفس اللفظ وإنما يرجع إلى ما تضمنه، فإذا فهمتم هذا خرجتم عن الصنف الغبي الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله‏{‏وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏النحل‏:‏ 101‏]‏‏.‏ المعنى أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما يشاء ويكلف ما يشاء، ويرفع من ذلك بعدل ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب‏.‏

قلت‏:‏ هذا تشنيع شنيع حتى يلحق فيه العلماء الأخيار في قصور الفهم بالكفار، والمسألة أصولية، وهي أن الأخبار عن الأحكام الشرعية هل يجوز نسخها أم لا‏؟‏ اختلف في ذلك، والصحيح جوازه لهذه الآية وما كان مثلها، ولأن الخبر عن مشروعية حكم ما يتضمن طلب ذلك المشروع، وذلك الطلب هو الحكم الشرعي الذي يستدل على نسخه‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأما ما ذكروا من الأحاديث فالأول والثاني ضعيفان؛ لأنه عليه السلام قد روي عنه بالنقل الثابت أنه قال‏:‏ ‏(‏كل شراب أسكر فهو حرام‏)وقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر وكل مسكر حرام‏)وقال‏:‏ ‏(‏ما أسكر كثيره فقليله حرام‏)‏‏.‏ قال النسائي‏:‏ وهؤلاء أهل الثبت والعدالة مشهورون بصحة النقل، وعبدالملك لا يقوم مقام واحد منهم ولو عاضده من أشكاله جماعة، وبالله التوفيق‏.‏ وأما الثالث وإن كان صحيحا فإنه ما كان يسقيه للخادم على أنه مسكر، وإنما كان يسقيه لأنه متغير الرائحة‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه الرائحة، فلذلك لم يشربه، ولذلك تحيل عليه أزواجه في عسل زبيب بأن قيل له‏:‏ إنا نجد منك ريح مغافير، يعني ريحا منكرة، فلم يشربه بعد‏.‏ وسيأتي في التحريم‏.‏ وأما حديث ابن عباس فقد روي عنه خلاف ذلك من رواية عطاء وطاوس ومجاهد أنه قال‏:‏ ما أسكر كثيره فقليله حرام، ورواه عنه قيس بن دينار‏.‏ وكذلك فتياه في المسكر؛ قاله الدارقطني‏.‏ والحديث الأول رواه عنه عبدالله بن شداد وقد خالفه الجماعة، فسقط القول به مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأما ما روي عن عمر من قوله‏:‏ ليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ، فإنه يريد غير المسكر بدليل ما ذكرنا‏.‏ وقد روى النسائي عن عتبة بن فرقد قال‏:‏ كان النبيذ الذي شربه عمر بن الخطاب قد خلل‏.‏ قال النسائي‏:‏ ومما يدل على صحة هذا حديث السائب، قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم‏:‏ حدثني مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد، أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال‏:‏ إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان مسكرا جلدته، فجلده عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد تاما‏.‏ وقد قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما بعد، أيها الناس فإنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة‏:‏ من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير‏.‏ والخمر ما خامر العقل‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏المائدة‏}‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد أحل شربه إبراهيم النخعي وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه‏.‏ قلنا‏:‏ ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي، وهذه زلة من عالم وقد حذرنا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة‏.‏ وذكر النسائي أيضا عن ابن المبارك قال‏:‏ ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحا إلا عن إبراهيم‏.‏ قال أبو أسامة‏:‏ ما رأيت رجلا أطلب للعلم من عبدالله بن المبارك الشامات ومصر واليمن والحجاز‏.‏ وأما الطحاوي وسفيان لو صح ذلك عنهما لم يحتج بهما على من خالفهما من الأئمة في تحريم المسكر مع ما ثبت من السنة؛ على أن الطحاوي قد ذكر في كتابه الكبير في الاختلاف خلاف ذلك‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر في كتاب التمهيد له‏:‏ قال أبو جعفر الطحاوي اتفقت الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر ومستحله كافر‏.‏ واختلفوا في نقيع التمر إذا غلى وأسكر‏.‏ قال‏:‏ فهذا يدلك على أن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب‏)‏ غير معمول به عندهم؛ لأنهم لو قبلوا الحديث لكفروا مستحل نقيع التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر المحرمة غير عصير العنب الذي قد اشتد وبلغ أن يسكر‏.‏ قال‏:‏ ثم لا يخلو من أن يكون التحريم معلقا بها فقط غير مقيس عليها غيرها أو يجب القياس عليها، فوجدناهم جميعا قد قاسوا عليها نقيع التمر إذا غلى وأسكر كثيره وكذلك نقيع الزبيب‏.‏ قال‏:‏ فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة‏.‏ قال‏:‏ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏ واستغنى عن مسنده لقبول الجميع له، وإنما الخلاف بينهم في تأويله، فقال بعضهم‏:‏ أراد به جنس ما يسكر‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أراد به ما يقع السكر عنده كما لا يسمى قاتلا إلا مع وجود القتل‏.‏

قلت‏:‏ فهذا يدل على أنه محرم عند الطحاوي لقوله، فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة‏.‏ وقد روى الدارقطني في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ إن الله لم يحرم الخمر لاسمها وإنما حرمها لعاقبتها، فكل شراب يكون عاقبته كعاقبة الخمر فهو حرام كتحريم الخمر‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة، وإذا اختلف الناس في الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وما روي عن بعض التابعين أنه شرب الشراب الذي يسكر كثيره فللقوم ذنوب يستغفرون الله منها، وليس يخلو ذلك من أحد معنيين‏:‏ إما مخطئ أخطأ في التأويل على حديث سمعه، أو رجل أتى ذنبا لعله أن يكثر من الاستغفار لله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم حجة الله على الأولين والآخرين من هذه الأمة‏.‏ وقد قيل في تأويل الآية‏:‏ إنها إنما ذكرت للاعتبار، أي من قدر على خلق هذه الأشياء قادر على البعث، وهذا الاعتبار لا يختلف بأن كانت الخمر حلالا أو حراما، فاتخاذ السكر لا يدل على التحريم، وهو كما قال تعالى‏{‏قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس‏}‏البقرة‏:‏ 219‏]‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 68 ‏)‏

‏{‏وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأوحى ربك إلى النحل‏}‏ قد مضى القول في الوحي وأنه قد يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى‏{‏ونفس وما سواها‏.‏ فألهمها فجورها وتقواها‏}‏الشمس‏:‏ 7 - 8‏]‏‏.‏ ومن ذلك البهائم وما يخلق الله سبحانه فيها من درك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها‏.‏ وقد أخبر عز وجل بذلك عن الموت فقال‏{‏تحدث أخبارها‏.‏ بأن ربك أوحى لها‏}‏الزلزلة‏:‏ 4 - 5‏]‏‏.‏ قال إبراهيم الحربي‏.‏ لله عز وجل في الموات قدرة لم يدر ما هي، لم يأتها رسول من عند الله ولكن الله تعالى عرفها ذلك؛ أي ألهمها‏.‏ ولا خلاف بين المتأولين أن الوحي هنا بمعنى الإلهام‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب ‏}‏إلى النحل‏}‏ بفتح الحاء‏.‏ وسمي نحلا لأن الله عز وجل نحله العسل الذي يخرج منه؛ قاله الزجاج‏.‏ الجوهري‏:‏ والنحل والنحلة الدّبّر يقع على الذكر والأنثى، حتى يقال‏:‏ يعسوب‏.‏ والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء‏.‏ وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الذبان كلها في النار يجعلها عذابا لأهل النار إلا النحل‏)‏ ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول‏.‏ وروي عن ابن عباس قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد، خرجه أبو داود أيضا، وسيأتي في ‏}‏النمل‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏}‏أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر‏}‏ هذا إذا لم يكن لها مالك‏.‏ وجعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع، إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار، وإما فيما يعرش ابن آدم من الإجباح والخلايا والحيطان وغيرها‏.‏ وعرش معناه هنا هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها؛ ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ومن هذا لفظة العرش‏.‏ يقال‏:‏ عرش يعرش ويعرش ‏(1)‏، وقرئ بهما‏.‏ قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر، واختلف في ذلك عن عاصم‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك أن الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج، إلا الشكل المسدس؛ فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

‏{‏ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم كلي من كل الثمرات‏}‏ وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار‏.‏ ‏}‏فاسلكي سبل ربك‏}‏ أي طرق ربك‏.‏ والسبل‏:‏ الطرق، وأضافها إليه لأنه خالقها‏.‏ أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر‏.‏ ‏}‏ذللا‏}‏ جمع ذلول وهو المنقاد؛ أي مطيعة مسخرة‏.‏ فـ ‏}‏ذللا‏}‏ حال من النحل‏.‏ أي تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها؛ لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا؛ قاله ابن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله ‏}‏ذللا‏}‏ السبل‏.‏ يقول‏:‏ مذلل طرقها سهلة للسلوك عليها؛ واختاره الطبري، و‏}‏ذللا‏}‏ حال من السبل‏.‏ واليعسوب سيد النحل، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت‏.‏

قوله تعالى‏{‏يخرج من بطونها شراب‏}‏ رجع الخطاب إلى الخبر على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة فقال‏{‏يخرج من بطونها شراب‏}‏ يعني العسل‏.‏ وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل؛ وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقيره للدنيا‏:‏ أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة‏.‏ فظاهر هذا أنه من غير الفم‏.‏ وبالجملة فإنه يخرج ولا يدرى من فيها أو أسفلها، ولكن لا يتم صلاحه إلا بحمي أنفاسها‏.‏ وقد صنع أرسطاطاليس بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع، فأبت أن تعمل حتى لطخت باطن الزجاج بالطين؛ ذكره الغزنوي‏.‏ وقال‏{‏من بطونها‏}‏ لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن‏.‏

قوله تعالى‏{‏مختلف ألوانه‏}‏ يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر والجامد والسائل، والأم واحدة والأولاد مختلفون دليل على أن القدرة نوعته بحسب تنويع الغذاء، كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي؛ ومن هذا المعنى قول زينب للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جرست نحله العرفط‏)‏ حين شبهت رائحته برائحة المغافير‏.‏

قوله تعالى‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏ الضمير للعسل؛ قال الجمهور‏.‏ أي في العسل شفاء للناس‏.‏ وروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك والفراء وابن كيسان‏:‏ الضمير للقرآن؛ أي في القرآن شفاء‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا قول حسن؛ أو فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس‏.‏ وقيل‏:‏ العسل فيه شفاء، وهذا القول بين أيضا؛ لأن أكثر الأشربة والمعجونات التي يتعالج بها أصلها من العسل‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ من قال إنه القرآن بعيد ما أراه يصح عنهم، ولو صح نقلا لم يصح عقلا؛ فإن مساق الكلام كله للعسل، ليس للقرآن فيه ذكر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية يراد بها أهل البيت وبنو هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر هذا بعضهم في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي، فقال له رجل ممن حضر‏:‏ جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فأضحك الحاضرين وبهت الآخر وظهرت سخافة قوله‏.‏

اختلف العلماء في قوله تعالى‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏ هل هو على عمومه أم لا؛ فقالت طائفة‏:‏ هو على العموم في كل حال ولكل أحد، فروي عن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلا‏.‏ وحكى النقاش عن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ويستمشي بالعسل ويتداوى بالعسل‏.‏ وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض فقيل له‏:‏ ألا نعالجك‏؟‏ فقال‏:‏ ائتوني بالماء، فإن الله تعالى يقول‏{‏ونزلنا من السماء ماء مباركا‏}‏ق‏:‏ 9‏]‏ ثم قال‏:‏ ائتوني بعسل، فإن الله تعالى يقول‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏ وائتوني بزيت، فإن الله تعالى يقول‏{‏من شجرة مباركة‏}‏النور‏:‏ 35‏]‏ فجاؤوه بذلك كله فخلطه جميعا ثم شربه فبرئ‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إنه على العموم إذا خلط بالخل ويطبخ فيأتي شرابا ينتفع به في كل حالة من كل داء‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إن ذلك على الخصوص ولا يقتضي العموم في كل علة وفي كل إنسان، بل إنه خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض وعلى حال دون حال؛ ففائدة الآية إخبار منه في أنه دواء لما كثر الشفاء به وصار خليطا ومعينا للأدوية في الأشربة والمعاجين؛ وليس هذا بأول لفظ خصص فالقرآن مملوء منه ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص والخاص بمعنى العام‏.‏ ومما يدل على أنه ليس على العموم أن ‏}‏شفاء‏}‏ نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل العلم ومختلقي أهل الأصول‏.‏ لكن قد حملته طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم‏.‏ فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع والأمراض، وكانوا يشفون من عللهم ببركة القرآن وبصحة التصديق والإيقان‏.‏ ابن العربي‏:‏ ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهوما على قول الأطباء، والكل من حكم الفعال لما يشاء‏.‏

إن قال قائل‏:‏ قد رأينا من ينفعه العسل ومن يضره، فكيف يكون شفاء للناس‏؟‏ قيل له‏:‏ الماء حياة كل شيء وقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يضاده من علة في البدن، وقد رأينا شفاء العسل في أكثر هذه الأشربة؛ قال معناه الزجاج‏.‏ وقد اتفق الأطباء عن بكرة أبيهم على مدح عموم منفعة السكنجبين في كل مرض، وأصله العسل وكذلك سائر المعجونات، على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حسم داء الإشكال وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكي بطنه بشرب العسل، فلما أخبره أخوه بأنه لم يزده إلا استطلاقا أمره بعود الشراب له فبرئ؛ وقال‏:‏ ‏(‏صدق الله وكذب بطن أخيك‏)‏‏.‏

اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا الحديث فقال‏:‏ قد أجمعت الأطباء على أن العسل يُسهِل فكيف يوصف لمن به الإسهال؛ فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيه عليه السلام، فيستعمله على الوجه الذي عينه وفي المحل الذي أمره بعقد نية وحسن طوية، فإنه يرى منفعته ويدرك بركته، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدم‏.‏ وأما ما حكي من الإجماع فدليل على جهله بالنقل حيث لم يقيد وأطلق‏.‏ قال الإمام أبو عبدالله المازري‏:‏ ينبغي أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة، منها الإسهال الحادث عن التخم والهيضات؛ والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها فضرر، فإذا وضح هذا قلنا‏:‏ فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بشرب العسل فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال فوافقه شرب العسل‏.‏ فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذِن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة‏.‏ قال‏:‏ ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الأطباء بل لو كذبوه لكذبناهم ولكفرناهم وصدقناه صلى الله عليه وسلم؛ فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخريجه على ما يصح إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب‏.‏

في قوله تعالى‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏ دليل على جواز التعالج بشرب الدواء وغير ذلك خلافا لمن كره ذلك من جلة العلماء، وهو يرد على الصوفية الذين يزعمون أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء، ولا يجوز له مداواة‏.‏ ولا معنى لمن أنكر ذلك، روى الصحيح عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لكل داء دواء فإذا أصاب دواء الداء برأ بإذن الله‏)‏‏.‏ وروى أبو داود والترمذي عن أسامة بن شريك قال قالت الأعراب‏:‏ ألا نتداوى يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏.‏ يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحد‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله وما هو‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الهرم‏)‏ لفظ الترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وروي عن أبي خزامة عن أبيه قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هي من قدر الله‏)‏ قال‏:‏ حديث حسن، ولا يعرف لأبي خزامة غير هذا الحديث‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار وما أحب أن أكتوي‏)‏ أخرجه الصحيح‏.‏ والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى‏.‏ وعلى إباحة التداوي والاسترقاء جمهور العلماء‏.‏ روي أن ابن عمر اكتوى من اللقوة ورقي من العقرب‏.‏ وعن ابن سيرين أن ابن عمر كان يسقي ولده الترياق‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا بأس بذلك‏.‏ وقد احتج من كره ذلك بما رواه أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دخلت أمة بقضها وقضيضها الجنة كانوا لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فالواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصاما بالله وتوكلا عليه وثقة به وانقطاعا إليه؛ فإن الله تعالى قد علم أيام المرض وأيام الصحة فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا؛ قال الله تعالى‏{‏ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها‏}‏الحديد‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وممن ذهب إلى هذا جماعة من أهل الفضل والأثر، وهو قول ابن مسعود وأبي الدرداء رضوان الله عليهم‏.‏ دخل عثمان بن عفان على ابن مسعود في مرضه الذي قبض فيه فقال له عثمان‏:‏ ما تشتكي‏؟‏ قال ذنوبي‏.‏ قال‏:‏ فما تشتهي‏؟‏ قال رحمة ربي‏.‏ قال‏:‏ ألا أدعو لك طبيبا‏؟‏ قال‏:‏ الطبيب أمرضني‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ وسيأتي بكماله في فضل الواقعة إن شاء الله تعالى‏.‏ وذكر وكيع قال‏:‏ حدثنا أبو هلال عن معاوية بن قرة قال‏:‏ مرض أبو الدرداء فعادوه وقالوا‏:‏ ألا ندعو لك طبيبا‏؟‏ قال‏:‏ الطبيب أضجعني‏.‏ وإلى هذا ذهب الربيع بن خيثم‏.‏ وكره سعيد بن جبير الرقى‏.‏ وكان الحسن يكره شرب الأدوية كلها إلا اللبن والعسل‏.‏ وأجاب الأولون عن الحديث بأنه لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يكون قصد إلى نوع من الكي مكروه بدليل كي النبي صلى الله عليه وسلم أبيا يوم الأحزاب على أكحله لما رمي‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏الشفاء في ثلاثة‏)‏ كما تقدم‏.‏ ويحتمل أن يكون قصد إلى الرقى بما ليس في كتاب الله، وقد قال سبحانه وتعالى‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء‏}‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏ على ما يأتي بيانه‏.‏ ورقى أصحابه وأمرهم بالرقية؛ على ما يأتي بيانه‏.‏

ذهب مالك وجماعة أصحابه إلى أن لا زكاة في العسل وإن كان مطعوما مقتاتا‏.‏ واختلف فيه قول الشافعي، والذي قطع به في قوله الجديد‏:‏ أنه لا زكاة فيه‏.‏ وقال أبو حنيفة بوجوب زكاة العسل في قليله وكثيره؛ لأن النصاب عنده فيه ليس بشرط‏.‏ وقال محمد بن الحسن‏:‏ لا شيء فيه حتى يبل ثمانية أفراق، والفرق ستة وثلاثون رطلا من أرطال العراق‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ في كل عشرة أزقاق زق؛ متمسكا بما رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏في العسل في كل عشرة أزقاق زق‏)‏ قال أبو عيسى‏:‏ في إسناده مقال، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شيء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم‏:‏ ليس في العسل شيء‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون‏}‏ أي يعتبرون؛ ومن العبرة في النحل بإنصاف النظر وإلطاف الفكر في عجيب أمرها‏.‏ فيشهد اليقين بأن ملهمها الصنعة اللطيفة مع البنية الضعيفة، وحذقها باحتيالها في تفاوت أحوالها هو الله سبحانه وتعالى؛ كما قال‏{‏وأوحى ربك إلى النحل‏}‏النحل‏:‏ 68‏]‏ الآية‏.‏ ثم أنها تأكل الحامض والمر والحلو والمالح والحشائش الضارة، فيجعله الله تعالى عسلا حلوا وشفاء، وفي هذا دليل على قدرته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 70 ‏)‏

‏{‏والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏والله خلقكم ثم يتوفاكم‏}‏ بين معناه‏.‏ ‏}‏ومنكم من يرد إلى أرذل العمر‏}‏ يعني أردأه وأوضعه‏.‏ وقيل‏:‏ الذي ينقص قوته وعقله ويصيره إلى الخرف ونحوه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يعني إلى أسفل العمر، يصير كالصبي الذي لا عقل له؛ والمعنى متقارب‏.‏ وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ يقول‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل‏)‏‏.‏ وفي حديث سعد بن أبي وقاص ‏(‏وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر‏)‏ الحديث‏.‏ خرجه البخاري‏.‏ ‏}‏لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير‏}‏ أي يرجع إلى حالة الطفولية فلا يعلم ما كان يعلم قبل من الأمور لفرط الكبر‏.‏ وقد قيل‏:‏ هذا لا يكون للمؤمن، لأن المؤمن لا ينزع عنه علمه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لكيلا يعمل بعد علم شيئا؛ فعبر عن العمل بالعلم لافتقاره إليه؛ لأن تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه‏.‏ والمعنى المقصود الاحتجاج على منكري البعث، أي الذي رده إلى هذه الحال قادر على أن يميته ثم يحييه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 71 ‏)‏

‏{‏والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والله فضل بعضكم على بعض في الرزق‏}‏ أي جعل منكم غنيا وحرا وعبدا‏.‏ ‏}‏فما الذين فضلوا‏}‏ أي في الرزق‏.‏ ‏}‏برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم‏}‏ أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق شيئا حتى يستوي المملوك والمالك في المال‏.‏ وهذا مثل ضربه الله لعبدة الأصنام، أي إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؛ فلما لم يكن يشركهم عبيدهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في عبادة غيره من الأوثان والأنصاب وغيرهما مما عبد؛ كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه‏.‏ حكى معناه الطبري، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم‏.‏ وعن ابن عباس أيضا أنها نزلت في نصارى نجران حين قالوا عيسى ابن الله فقال الله لهم ‏}‏فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم‏}‏ أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتى يكون المولى والعبد في المال شرعا سواء، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم فتجعلون لي ولدا من عبيدي‏.‏ ونظيرها ‏}‏ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء‏}‏الروم‏:‏ 28‏]‏ على ما يأتي‏.‏ ودل هذا على أن العبد لا يملك، على ما يأتي أنفا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 72 ‏)‏

‏{‏والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا‏}‏ جعل بمعنى خلق ‏}‏من أنفسكم أزواجا‏}‏ يعني آدم خلق منه حواء‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى جعل لكم من أنفسكم، أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقتكم؛ كما قال‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ أي من الآدميين‏.‏ وفي هذا رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها، حتى روي أن عمرو بن هند تزوج منهم غولا وكان يخبؤها عن البرق لئلا تراه فتنفر، فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة فقالت‏:‏ عمرو ونفرت، فلم يرها أبدا‏.‏ وهذا من أكاذيبها، وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته فهو رد على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجن ويحيلون طعامهم‏.‏ ‏}‏أزواجا‏}‏ زوج الرجل هي ثانيته، فإنه فرد فإذا انضافت إليه كانا زوجين، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها لأنه أصلها في الوجود كما تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وجعل لكم من أزواجكم بنين‏}‏ ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، ووجود الأبناء يكون منهما معا؛ ولكنه لما كان خلق المولود فيها وانفصاله عنها أضيف إليها، ولذلك تبعها في الرق والحرية وصار مثلها في المالية‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول‏:‏ إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية؛ لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلأجل ذلك تبعها‏.‏ كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها‏.‏

قوله تعالى‏{‏وحفدة‏}‏ روى ابن القاسم عن مالك قال وسألته عن قوله تعالى‏{‏بنين وحفدة‏}‏ قال‏:‏ الحفدة الخدم والأعوان في رأيي‏.‏ وروي عن ابن عباس في قوله تعالى‏{‏وحفدة‏}‏ قال هم الأعوان، من أعانك فقد حفدك‏.‏ قيل له‏:‏ فهل تعرف العرب ذلك‏؟‏ قال نعم وتقول أو ما سمعت قول الشاعر‏:‏

حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال

أي أسرعن الخدمة‏.‏ والولائد‏:‏ الخدم، الواحدة وليدة؛ قال الأعشى‏:‏

كلفت مجهولها نوقا يمانية إذا الحداة على أكسائها حفدوا

أي أسرعوا‏.‏ وقال ابن عرفة‏:‏ الحفدة عند العرب الأعوان، فكل من عمل عملا أطاع فيه وسارع فهو حافد، قال‏:‏ ومنه قولهم إليك نسعى ونحفد، والحفدان السرعة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ الحفد العمل والخدمة‏.‏ وقال الخليل بن أحمد‏:‏ الحفدة عند العرب الخدم، وقاله مجاهد‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ قيل الحفدة أولاد الأولاد‏.‏ وروي عن ابن عباس‏.‏ وقيل الأختان؛ قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحاك وسعيد بن جبير وإبراهيم؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد ما يعد كثير

ولكنها نفس علي أبية عيوف لإصهار اللئام قذور

وروى زر عن عبدالله قال‏:‏ الحفدة الأصهار؛ وقاله إبراهيم، والمعنى متقارب‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ الختن من كان من قبل المرأة، مثل أبيها وأخيها وما أشبههما؛ والأصهار منها جميعا‏.‏ يقال‏:‏ أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر‏.‏ وقول عبدالله هم الأختان، يحتمل المعنيين جميعا‏.‏ يحتمل أن يكون أراد أبا المرأة وما أشبهه من أقربائها، ويحتمل أن يكون أراد وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهن، فيكون لكم بسببهن أختان‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ الحفدة من نفع الرجال من ولده؛ وأصله من حفد يحفد - بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل - إذا أسرع في سيره؛ كما قال كثير‏:‏

حفد الولائد بينهن‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

ويقال‏:‏ حفدت وأحفدت، لغتان إذا خدمت‏.‏ ويقال‏:‏ حافد وحفد؛ مثل خادم وخدم، وحافد وحفدة مثل كافر وكفرة‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ومن جعل الحفدة الخدم جعله منقطعا مما قبله ينوي به التقديم؛ كأنه قال‏:‏ جعل لكم حفدة وجعل لكم من أزواجكم بنين‏.‏

قلت‏:‏ ما قال الأزهري من أن الحفدة أولاد الأولاد هو ظاهر القرآن بل نصه؛ ألا ترى أنه قال‏{‏وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة‏}‏ فجعل الحفدة والبنين منهن‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ الأظهر عندي في قوله ‏}‏بنين وحفدة‏}‏ أن البنين أولاد الرجل لصلبه والحفدة أولاد ولده، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا، ويكون تقدير الآية على هذا‏:‏ وجعل لكم من أزواجكم بنين ومن البنين حفدة‏.‏ وقال معناه الحسن‏.‏

إذا فرعنا على قول مجاهد وابن عباس ومالك وعلماء اللغة في قولهم إن الحفدة الخدم والأعوان، فقد خرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان؛ قاله ابن العربي‏.‏ روي البخاري وغيره عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه فكانت امرأته خادمهم‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، وفي الصحيح عن عائشة قالت‏:‏ أنا فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي‏.‏ الحديث‏.‏ ولهذا قال علماؤنا‏:‏ عليها أن تفرش الفراش وتطبخ القدر وتقم الدار، بحسب حالها وعادة مثلها؛ قال الله تعالى‏{‏وجعل منها زوجها ليسكن إليها‏}‏الأعراف‏:‏ 189‏]‏ فكأنه جمع لنا فيها السكن والاستمتاع وضربا من الخدمة بحسب جري العادة‏.‏

ويخدم الرجل زوجته فيما خف من الخدمة ويعينها، لما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله فإذا سمع الأذان خرج‏.‏ وهذا قول مالك‏:‏ ويعينها‏.‏ وفي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخصف النعل ويقم البيت ويخيط الثوب‏.‏ وقالت عائشة وقد قيل لها‏:‏ ما كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته‏؟‏ قالت‏:‏ كان بشرا من البشر يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه‏.‏

وينفق على خادمة واحدة، وقيل على أكثر؛ على قدر الثروة والمنزلة‏.‏ وهذا أمر دائر على العرف الذي هو أصل من أصول الشريعة، فإن نساء الأعراب وسكان البوادي يخدمن أزواجهن في استعذاب الماء وسياسة الدواب، ونساء الحواضر يخدم المقل منهم زوجته فيما خف ويعينها، وأما أهل الثروة فيخدمون أزواجهن ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب ذلك؛ فإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك، فتشهد أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها فالتزم إخدامها، فينفذ ذلك وتنقطع الدعوى فيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ أي من الثمار والحبوب والحيوان‏.‏ ‏}‏أفبالباطل‏}‏ يعني الأصنام؛ قال ابن عباس‏.‏ ‏}‏يؤمنون‏}‏ قراءة الجمهور بالياء‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن بالتاء‏.‏ ‏}‏وبنعمة الله‏}‏ أي بالإسلام‏.‏ ‏}‏هم يكفرون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 73 ‏:‏ 74 ‏)‏

‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون، فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات‏}‏ يعني المطر‏.‏ ‏}‏والأرض‏}‏

يعني النبات‏.‏ ‏}‏شيئا‏}‏ قال الأخفش‏:‏ هو بدل من الرزق‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو منصوب بإيقاع الرزق عليه؛ أي يعبدون ما لا يملك أن يرزقهم شيئا‏.‏ ‏}‏ولا يستطيعون‏}‏ أي لا يقدرون على شيء، يعني الأصنام‏.‏ ‏}‏فلا تضربوا لله الأمثال‏}‏ أي لا تشبهوا به هذه الجمادات؛ لأنه واحد قادر لا مثل له‏.‏ وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 75 ‏)‏

‏{‏ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ضرب الله مثلا‏}‏ نبه تعالى على ضلالة المشركين، وهو منتظم بما قبله من ذكر نعم الله عليهم وعدم مثل ذلك من آلهتهم‏.‏ ‏}‏ضرب الله مثلا‏}‏ أي بين شبها؛ ثم ذكر ذلك فقال‏{‏عبدا مملوكا‏}‏ أي كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حر قد رزق رزقا حسنا فكذلك أنا وهذه الأصنام‏.‏ فالذي هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده‏.‏ ولا يلزم من الآية أن العبيد كلهم بهذه الصفة؛ فإن النكرة في الإثبات لا تقتضي الشمول عند أهل اللسان كما تقدم، وإنما تفيد واحدا، فإذا كانت بعد أمر أو نهي أو مضافة إلى مصدر كانت للعموم الشيوعي؛ كقوله‏:‏ أعتق رجلا ولا تهن رجلا، والمصدر كإعتاق رقبة، فأي رجل أعتق فقد خرج عن عهدة الخطاب، ويصح منه الاستثناء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هذا المثل للمؤمن والكافر؛ فذهب قتادة إلى أن العبد المملوك هو الكافر؛ لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته، وإلى أن معنى ‏}‏ومن رزقناه منا رزقا حسنا‏}‏ المؤمن‏.‏ والأول عليه الجمهور من أهل التأويل‏.‏ قال الأصم‏:‏ المراد بالعبد المملوك الذي ربما يكون أشد من مولاه أسرا وأنضر وجها، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه؛ فقال الله تعالى ضربا للمثال‏.‏ أي فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم فكيف جعلتم أحجارا مواتا شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته، وهي لا تعقل ولا تسمع‏.‏

فهم المسلمون من هذه الآية ومما قبلها نقصان رتبة العبد عن الحر في الملك، وأنه لا يملك شيئا وإن ملك‏.‏ قال أهل العراق‏:‏ الرق ينافي الملك، فلا يملك شيئا البتة بحال، وهو قول الشافعي في الجديد، وبه قال الحسن وابن سيرين‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ يملك إلا أنه ناقص الملك، لأن لسيده أن ينتزعه منه أي وقت شاء، وهو قول مالك ومن اتبعه، وبه قال الشافعي في القديم‏.‏ وهو قول أهل الظاهر؛ ولهذا قال أصحابنا‏:‏ لا تجب عليه عبادات الأموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك‏.‏ وفائدة هذه المسألة أن سيده لو ملكه جارية جاز له أن يطأها بملك اليمين، ولو ملكه أربعين من الغنم فحال عليها الحول لم تجب على السيد زكاتها لأنها ملك غيره، ولا على العبد لأن ملكه غير مستقر‏.‏ والعراقي يقول‏:‏ لا يجوز له أن يطأ الجارية، والزكاة في النصاب واجبة على السيد كما كانت‏.‏ ودلائل هذه المسألة للفريقين في كتب الخلاف‏.‏ وأدل دليل لنا قوله تعالى‏{‏الله الذي خلقكم ثم رزقكم‏}‏الروم‏:‏ 40‏]‏ فسوى بين العبد والحر في الرزق والخلق‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏من أعتق عبدا وله مال‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فأضاف المال إليه‏.‏ وكان ابن عمر يرى عبده يتسرى في ماله فلا يعيب عليه ذلك‏.‏ وروي عن ابن عباس أن عبدا له طلق امرأته طلقتين فأمره أن يرتجعها بملك اليمين؛ فهذا دليل على أنه يملك ما بيده ويفعل فيه ما يفعل المالك في ملكه ما لم ينتزعه سيده‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن طلاق العبد بيد سيده، وعلى أن بيع الأمة طلاقها؛ معولا على قوله تعالى‏{‏لا يقدر على شيء‏}‏‏.‏ قال‏:‏ فظاهره يفيد أنه لا يقدر على شيء أصلا، لا على الملك ولا على غيره فهو على عمومه، إلا أن يدل دليل على خلافه‏.‏ وفيما ذكرناه عن ابن عمر وابن عباس ما يدل على التخصيص‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

قال أبو منصور في عقيدته‏:‏ الرزق ما وقع الاغتذاء به‏.‏ وهذه الآية ترد هذا التخصيص؛ وكذلك قوله تعالى‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏البقرة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ و‏}‏أنفقوا مما رزقناكم‏}‏البقرة‏:‏ 254‏]‏ وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جعل رزقي تحت ظل رمحي‏)وقوله‏:‏ ‏(‏أرزاق أمتي في سنابك خيلها وأسنة رماحها‏)‏‏.‏ فالغنيمة كلها رزق، وكل ما صح به الانتفاع فهو رزق، وهو مراتب‏:‏ أعلاها ما يغذي‏.‏ وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في قوله‏:‏ ‏(‏يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت‏)‏‏.‏ وفي معنى اللباس يدخل الركوب وغير ذلك‏.‏ وفي ألسنة المحدثين‏:‏ السماع رزق، يعنون سماع الحديث، وهو صحيح‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن رزقناه منا رزقا حسنا‏}‏ هو المؤمن، يطيع الله في نفسه وماله‏.‏ والكافر ما لم ينفق في الطاعة صار كالعبد الذي لا يملك شيئا‏.‏ ‏}‏هل يستوون‏}‏ أي لا يستوون، ولم يقل يستويان لمكان ‏}‏من‏}‏ لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث‏.‏ وقيل‏{‏إن عبدا مملوكا‏}‏، ‏}‏ومن رزقناه‏}‏ أريد بهما الشيوع في الجنس‏.‏ ‏}‏الحمد لله‏}‏ أي هو مستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه؛ إذ لا نعمة للأصنام عليهم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد الكامل لله؛ لأنه المنعم الخالق‏.‏ ‏}‏بل أكثرهم‏}‏ أي أكثر المشركين‏.‏ ‏}‏لا يعلمون‏}‏ أن الحمد لي، وجميع النعمة مني‏.‏ وذكر الأكثر وهو يريد الجميع، فهو خاص أريد به التعميم‏.‏ وقيل‏:‏ أي بل أكثر الخلق لا يعلمون، وذلك أن أكثرهم المشركون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 76 ‏)‏

‏{‏وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم‏}‏ هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى؛ قاله قتادة وغيره‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الأبكم عبد كان لعثمان رضي الله عنه، وكان يعرض عليه الإسلام فيأبى، ويأمر بالعدل عثمان‏.‏ وعنه أيضا أنه مثل لأبي بكر الصديق ومولى له كافر‏.‏ وقيل‏:‏ الأبكم أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر العنسي، وعنس ‏}‏بالنون‏}‏ حي من مذحج، وكان حليفا لبني مخزوم رهط أبي جهل، وكان أبو جهل يعذبه على الإسلام ويعذب أمه سمية، وكانت مولاة لأبي جهل، وقال لها ذات يوم‏:‏ إنما آمنت بمحمد لأنك تحبينه لجماله، ثم طعنها بالرمح في قبلها فماتت، فهي أول شهيد مات في الإسلام، رحمها الله‏.‏ من كتاب النقاش وغيره‏.‏ وسيأتي هذا في آية الإكراه مبينا إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال عطاء‏:‏ الأبكم أبي بن خلف، كان لا ينطق بخير‏.‏ ‏}‏وهو كل على مولاه‏}‏ أي قومه لأنه كان يؤذيهم ويؤذي عثمان بن مظعون‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في هشام بن عمرو بن الحارث، كان كافرا قليل الخير يعادي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأبكم الكافر، والذي يأمر بالعدل المؤمن جملة بجملة؛ روى عن ابن عباس وهو حسن لأنه يعم‏.‏ والأبكم الذي لا نطق له‏.‏ وقيل الذي لا يعقل‏.‏ وقيل الذي لا يسمع ولا يبصر‏.‏ وفي التفسير إن الأبكم ها هنا الوثن‏.‏ بين أنه لا قدرة له ولا أمر، وأن غيره ينقله وينحته فهو كل عليه‏.‏ والله الآمر بالعدل، الغالب على كل شيء‏.‏ ‏}‏وهو كل على مولاه‏}‏ أي ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه‏.‏ وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

أكول لمال الكل قبل شبابه إذا كان عظم الكل غير شديد

والكل أيضا الذي لا ولد له ولا والد‏.‏ والكل العيال، والجمع الكلول، يقال منه‏:‏ كل السكين يكل كلا أي غلظت شفرته فلم يقطع‏.‏ ‏}‏أينما يوجه لا يأت بخير‏}‏ قرأ الجمهور ‏}‏يوجهه‏}‏ وهو خط المصحف؛ أي أينما يرسله صاحبه لا يأت بخير، لأنه لا يعرف ولا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب ‏}‏أينما يوجه‏}‏ على الفعل المجهول‏.‏ وروي عن ابن مسعود أيضا ‏}‏توجه‏}‏ على الخطاب‏.‏ ‏}‏هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم‏}‏ أي هل يستوي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل وهو على الصراط المستقيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 77 ‏)‏

‏{‏ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولله غيب السماوات والأرض‏}‏ تقدم معناه‏.‏ وهذا متصل بقوله ‏}‏إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏النحل‏:‏ 74‏]‏ أي شرع التحليل والتحريم إنما يحسن ممن يحيط بالعواقب والمصالح وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بها فلم تتحكمون‏.‏ ‏}‏وما أمر الساعة إلا كلمح البصر‏}‏ وتجازون فيها بأعمالكم‏.‏ والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة؛ سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة‏.‏ واللمح النظر بسرعة؛ يقال لمحه لمحا ولمحانا‏.‏ ووجه التأويل أن الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب كلمح البصر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها؛ أي يقول للشيء كن فيكون‏.‏ وقيل‏:‏ إنما مثل بلمح البصر لأنه يلمح السماء مع ما هي عليه من البعد من الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ هو تمثيل للقرب؛ كما يقول القائل‏:‏ ما السنة إلا لحظة، وشبهه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى هو عند الله كذلك لا عند المخلوقين؛ دليله قوله‏{‏إنهم يرونه بعيدا‏.‏ ونراه قريبا‏}‏‏.‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 6 - 7‏]‏‏.‏ ‏}‏أو هو أقرب‏}‏ ليس ‏}‏أو‏}‏ للشك بل للتمثيل بأيهما أراد الممثل‏.‏ وقيل‏:‏ دخلت لشك المخاطب‏.‏ وقيل‏{‏أو‏}‏ بمنزلة بل‏.‏ ‏}‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏ تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 78 ‏)‏

‏{‏والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا‏}‏ ذكر أن من نعمه أن أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا لا علم لكم بشيء‏.‏ وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم‏.‏ الثاني‏:‏ لا تعلمون شيئا مما قضى عليكم من السعادة والشقاء‏.‏ الثالث‏:‏ لا تعلمون شيئا من منافعكم؛ وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال‏{‏وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة‏}‏ أي التي تعلمون بها وتدركون؛ لأن الله جعل ذلك لعباده قبل إخراجهم من البطون وإنما أعطاهم ذلك بعدما أخرجهم؛ أي وجعل لكم السمع لتسمعوا به الأمر والنهي، والأبصار لتبصروا بها آثار صنعه، والأفئدة لتصلوا بها إلى معرفته‏.‏ والأفئدة‏:‏ جمع الفؤاد نحو غراب وأغربة‏.‏ وقد قيل في ضمن قوله ‏}‏وجعل لكم السمع‏}‏ إثبات النطق لأن من لم يسمع لم يتكلم، وإذا وجدت حاسة السمع وجد النطق‏.‏ وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة ‏}‏إمهاتكم‏}‏ هنا وفي النور والزمر والنجم، بكسر الهمزة والميم‏.‏ وأما الكسائي فكسر الهمزة وفتح الميم؛ وإنما كان هذا للإتباع‏.‏ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم على الأصل‏.‏ وأصل الأمهات‏:‏ أمات، فزيدت الهاء تأكيدا كما زادوا هاء في أهرقت الماء وأصله أرقت‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏}‏الفاتحة‏}‏‏.‏ ‏}‏لعلكم تشكرون‏}‏ فيه تأويلان‏:‏ أحدهما‏:‏ تشكرون نعمه‏.‏ الثاني‏:‏ يعني تبصرون آثار صنعته؛ لأن إبصارها يؤدي إلى الشرك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 79 ‏)‏

‏{‏ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله‏}‏ قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن عامر وحمزة ويعقوب ‏}‏تروا‏}‏ بالتاء على الخطاب، واختاره أبو عبيد‏.‏ الباقون بالياء على الخبر‏.‏ ‏}‏مسخرات‏}‏ مذللات لأمر الله تعالى؛ قاله الكلبي‏.‏ وقيل‏{‏مسخرات‏}‏ مذللات لمنافعكم‏.‏ ‏}‏في جو السماء‏}‏ الجو ما بين السماء والأرض؛ وأضاف الجو إلى السماء لارتفاعه عن الأرض‏.‏ وفي قوله ‏}‏مسخرات‏}‏ دليل على مسخر سخرها ومدبر مكنها من التصرف‏.‏ ‏}‏ما يمسكهن إلا الله‏}‏ في حال القبض والبسط والاصطفاف‏.‏ بين لهم كيف يعتبرون بها على وحدانيته‏.‏ ‏}‏إن في ذلك لآيات‏}‏ أي علامات وعبرا ودلالات‏.‏ ‏}‏لقوم يؤمنون‏}‏ بالله وبما جاءت به رسلهم‏.‏

 الأية رقم ‏(‏ 80 ‏)‏

‏{‏والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين‏}‏

قوله تعالى‏{‏جعل لكم‏}‏ معناه صير‏.‏ وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار؛ فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت‏.‏ وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت المدن وهي التي للإقامة الطويلة‏.‏ وقوله‏{‏سكنا‏}‏ أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره؛ إلا أن القول خرج على الغالب‏.‏ وعد هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد، لو خلقه ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد، ولكنه أوجده خلقا يتصرف للوجهين، ويختلف حاله بين الحالتين، وردده كيف وأين‏.‏ والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع‏.‏

قوله تعالى‏{‏وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها‏}‏ ذكر تعالى بيوت القلة والرحلة فقال ‏}‏وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها‏}‏ أي من الأنطاع والأدم‏.‏ ‏}‏بيوتا‏}‏ يعني الخيام والقباب يخف عليكم حملها في الأسفار‏.‏ ‏}‏يوم ظعنكم‏}‏ الظعن‏:‏ سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع؛ ومنه قول عنترة‏:‏

ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببينهم الغراب الأبقع

والظعن الهودج أيضا؛ قال‏:‏

ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا وإذ جادت بوشك البين غربان

وقرئ بإسكان العين وفتحها كالشعر والشعر‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يعم بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف؛ لأن هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها؛ نحا إلى ذلك ابن سلام‏.‏ وهو احتمال حسن، ويكون قوله ‏}‏ومن أصوافها‏}‏ ابتداء كلام، كأنه قال جعل أثاثا؛ يريد الملابس والوطاء، وغير ذلك؛ قال الشاعر‏:‏

أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث

ويحتمل أن يريد بقوله ‏}‏من جلود الأنعام‏}‏ بيوت الأدم فقط كما قدمناه أولا‏.‏ ويكون قوله ‏}‏ومن أصوافها‏}‏ عطفا على قوله ‏}‏من جلود الأنعام‏}‏ أي جعل بيوتا أيضا‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا أمر انتشر في تلك الديار، وعزبت عنه بلادنا، فلا تضرب الأخبية عندنا إلا من الكتان والصوف، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم قبة من أدم، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة، واعتلاء في الصنعة، وحسنا في البشرة، ولم يعد ذلك صلى الله عليه وسلم ترفا ولا رآه سرفا؛ لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان‏.‏ ومن غريب ما جرى أني زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين، فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا، وقال‏:‏ إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك؛ فقال‏:‏ هذا الخباء لنا كثير، وكان في صنعنا من الحقير؛ فقلت‏:‏ ليس كما زعمت فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الزهاد قبة من أدم طائفي يسافر معها ويستظل بها؛ فبهت، ورأيته على منزلة من العي فتركته مع صاحبي وخرجت عنه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها‏}‏ أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، كما أذن في الأعظم، وهو ذبحها وأكل لحومها، ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا‏.‏ وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها؛ وهذا كقوله تعالى‏{‏وينزل من السماء من جبال فيها من برد‏}‏النور‏:‏ 43‏]‏؛ فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم، وسكت عن ذكر الثلج؛ لأنه لم يكن في بلادهم، وهو مثله في الصفة والمنفعة، وقد ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم معا في التطهير فقال‏:‏ ‏(‏اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد‏)‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الثلج شيء أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط‏.‏ وقيل‏:‏ إن ترك ذكر القطن والكتان إنما كان إعراضا عن الترف؛ إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف‏.‏ وهذا فيه نظر؛ فإنه سبحانه يقول‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم‏}‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏ وقال هنا‏{‏وجعل لكم سرابيل‏}‏ فأشار إلى القطن والكتان في لفظة ‏}‏سرابيل‏}‏ والله أعلم‏.‏ و‏}‏أثاثا‏}‏ قال الخليل‏:‏ متاعا منضما بعضه إلى بعض؛ من أث إذا كثر‏.‏ قال‏:‏

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل

ابن عباس‏{‏أثاثا‏}‏ ثيابا‏.‏

وتضمنت هذه الآية جواز الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال، ولذلك قال أصحابنا‏:‏ صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ؛ وكذلك روت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل‏)‏ لأنه مما لا يحله الموت، سواء كان شعر ما يؤكل لحمه أو لا، كشعر ابن آدم والخنزير، فإنه طاهر كله؛ وبه قال أبو حنيفة، ولكنه زاد علينا فقال‏:‏ القرن والسن والعظم مثل الشعر؛ قال‏:‏ لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها لا تنجس بموت الحيوان‏.‏ وقال الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي‏:‏ إن الشعور كلها نجسة ولكنها تطهر بالغسل‏.‏ وعن الشافعي ثلاث روايات‏:‏ الأولى‏:‏ طاهرة لا تنجس بالموت‏.‏ الثانية‏:‏ تنجس‏.‏ الثالثة‏:‏ الفرق بين شعر ابن آدم وغيره، فشعر ابن آدم طاهر وما عداه نجس‏.‏ ودليلنا عموم قوله تعالى‏{‏ومن أصوافها‏}‏ الآية‏.‏ فمن علينا بأن جعل لنا الانتفاع بها، ولم يخصى شعر الميتة من المذكاة، فهو عموم إلا أن يمنع منه دليل‏.‏ وأيضا فإن الأصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع، فمن زعم أنه انتقل إلى نجاسة فعليه الدليل‏.‏ فإن قيل قوله‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وذلك عبارة عن الجملة‏.‏ قلنا‏:‏ نخصه بما ذكرنا؛ فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف، وليس في آيتكم ذكره صريحا، فكان دليلنا أولى‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد عول الشيخ الإمام أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أن الشعر جزء متصل بالحيوان خِلقة، فهو ينمي بنمائه ويتنجس بموته كسائر الأجزاء‏.‏ وأجيب بأن الماء ليس بدليل على الحياة؛ لأن النبات ينمي وليس بحي‏.‏ وإذا عولوا على النماء المتصل لما على الحيوان عولنا نحن على الإبانة التي تدل على عدم الإحساس الذي يدل على عدم الحياة‏.‏ وأما ما ذكره الحنفيون في العظم والسن والقرن أنه مثل الشعر، فالمشهور عندنا أن ذلك نجس كاللحم‏.‏ وقال ابن وهب مثل قول أبي حنيفة‏.‏ ولنا قول ثالث‏:‏ هل تلحق أطراف القرون والأظلاف بأصولها أو بالشعر، قولان‏.‏ وكذلك الشعري من الريش حكمه حكم الشعر، والعظمي منه حكمه حكمه‏.‏ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تنتفعوا من الميتة بشيء‏)‏ وهذا عام فيها وفي كل جزء منها، إلا ما قام دليله؛ ومن الدليل القاطع على ذلك قوله تعالى‏{‏قال من يحيي العظام وهي رميم‏}‏يس‏:‏ 78‏]‏، وقال تعالى‏{‏وانظر إلى العظام كيف ننشزها‏}‏البقرة‏:‏ 259‏]‏، وقال‏{‏فكسونا العظام لحما‏}‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏، وقال‏{‏أئذا كنا عظاما نخرة‏}‏النازعات‏:‏ 11‏]‏ فالأصل هي العظام، والروح والحياة فيها كما في اللحم والجلد‏.‏ وفي حديث عبدالله بن عكيم‏:‏ ‏(‏لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب‏)‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميمونة‏:‏ ‏(‏ألا انتفعتم بجلدها‏)‏‏؟‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله، إنها ميتة‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنما حرم أكلها‏)‏ والعظم لا يؤكل‏.‏ قلنا‏:‏ العظم يؤكل، وخاصة عظم الجمل الرضيع والجدي والطير، وعظم الكبير يشوى ويؤكل‏.‏ وما ذكرناه قبل يدل على وجود الحياة فيه، وما كان طاهرا بالحياة ويستباح بالذكاة ينجس بالموت‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏من جلود الأنعام‏}‏ عام في جلد الحي والميت، فيجوز الانتفاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ؛ وبه قال ابن شهاب الزهري والليث بن سعد‏.‏ قال الطحاوي‏:‏ لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ يعني من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين، وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح، وهو قول أباه جمهور أهل العلم‏.‏ وقد روي عنهما خلاف هذا القول، والأول أشهر‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكر الدارقطني في سننه حديث يحيى بن أيوب عن يونس وعقيل عن الزهري، وحديث بقية عن الزبيدي، وحديث محمد بن كثير العبدي وأبي سلمة المنقري عن سليمان بن كثير عن الزهري، وقال في آخرها‏:‏ هذه أسانيد صحاح‏.‏

اختلف العلماء في جلد الميتة إذا دبغ هل يطهر أم لا؛ فذكر ابن عبدالحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك‏.‏ وذكره ابن خويز منداد في كتابه عن ابن عبدالحكم أيضا‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ وهو قول الزهري والليث‏.‏ قال‏:‏ والظاهر من مذهب مالك ما ذكره ابن عبدالحكم، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة، ولا يصلى عليه ولا يؤكل فيه‏.‏ وفي المدونة لابن القاسم‏:‏ من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته‏.‏ وحكى أن ذلك قول مالك‏.‏ وذكر أبو الفرج أن مالكا قال‏:‏ من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شيء عليه‏.‏ قال إسماعيل‏:‏ إلا أن يكون لمجوسي‏.‏ وروى ابن وهب، وابن عبدالحكم عن مالك جواز بيعه، وهذا في جلد كل ميتة إلا الخنزير وحده؛ لأن الزكاة لا تعمل فيه، فالدباغ أولى‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وكل جلد ذكي فجائز استعماله للوضوء وغيره‏.‏ وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله، ومرة قال‏:‏ إنه لم يكرهه إلا في خاصة نفسه، وتكره الصلاة عليه وبيعه، وتابعه على ذلك جماعة من أصحابه‏.‏ وأما أكثر المدنيين فعلى إباحة ذلك وإجازته؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيما إهاب دبغ فقد طهر‏)‏‏.‏ وعلى هذا أكثر أهل الحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث، وهو اختيار ابن وهب‏.‏

ذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شيء وإن دبغت؛ لأنها كلحم الميتة‏.‏ والأخبار بالانتفاع بعد الدباغ ترد قوله‏.‏ واحتج بحديث عبدالله بن عكيم - رواه أبو داود - قال‏:‏ قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة وأنا غلام شاب‏:‏ ‏(‏ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ قبل موته بشهر‏.‏ رواه القاسم بن مخيمرة عن عبدالله بن عكيم، قال‏:‏ حدثنا مشيخة لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم‏.‏‏.‏ قال داود بن علي‏:‏ سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فضعفه وقال‏:‏ ليس بشيء، إنما يقول حدثني الأشياخ، قال أبو عمر‏:‏ ولو كان ثابتا لاحتمل أن يكون مخالفا للأحاديث المروية عن ابن عباس وعائشة وسلمة بن المحبق وغيرهم، لأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم ‏(‏ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب‏)‏ قبل الدباغ؛ وإذا احتمل ألا يكون مخالف ا فليس لنا أن نجعله مخالفا، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن، وحديث عبدالله بن عكيم وإن كان قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهر كما جاء في الخبر فيمكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه ‏(‏أيما إهاب دبغ فقد طهر‏)‏ قبل موته بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم‏.‏

المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم، وكذلك الكلب عند الشافعي‏.‏ وعند الأوزاعي وأبي ثور‏:‏ لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه‏.‏ وروى معن بن عيسى عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ فكرهه‏.‏ قال ابن وضاح‏:‏ وسمعت سحنونا يقول لا بأس به؛ وكذلك قال محمد بن عبدالحكم وداود بن علي وأصحابه؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أيما مسك دبغ فقد طهر‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها، فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لأنه غير معهود الانتفاع بجلده، إذ لا تعمل فيه الذكاة‏.‏ ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل‏:‏ إن الإهاب جلد البقر والغنم والإبل، وما عداه فإنما يقال له‏:‏ جلد لا إهاب‏.‏

قلت‏:‏ وجلد الكلب وما لا يؤكل لحمه أيضا غير معهود الانتفاع به فلا يطهر؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أكل كل ذي ناب من السباع حرام‏)‏ فليست الذكاة فيها ذكاة، كما أنها ليست في الخنزير ذكاة‏.‏ وروى النسائي عن المقدام بن معد يكرب قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب ومياثر النمور ‏)‏

اختلف الفقهاء في الدباغ التي تطهر به جلود الميتة ما هو‏؟‏ فقال أصحاب مالك وهو المشهور من مذهبه‏:‏ كل شيء دبغ الجلد من ملح أو قرظ أو شب أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به‏.‏ وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول داود‏.‏ وللشافعي في هذه المسألة قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ هذا، والآخر أنه لا يطهر إلا الشب والقرظ؛ لأنه الدباغ المعهود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه خرج الخطابي - والله أعلم - ما رواه النسائي عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو أخذتم إهابها‏)‏ قالوا‏.‏ إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يطهرها الماء والقرظ‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏أثاثا‏}‏ الأثاث متاع البيت، واحدها أثاثة؛ هذا قول أبي زيد الأنصاري‏.‏ وقال الأموي‏:‏ الأثاث متاع البيت، وجمعه آثة وأثث‏.‏ وقال غيرهما‏:‏ الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه‏.‏ وقال الخليل‏:‏ أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر؛ ومنه شعر أثيث أي كثير‏.‏ وأث شعر فلان يأث أثا إذا كثر والتف؛ قال امرؤ القيس‏:‏

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل

وقيل‏:‏ الأثاث ما يلبس ويفترش‏.‏ وقد تأثثت إذا اتخذت أثاثا‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه ‏}‏أثاثا‏}‏ مالا‏.‏ وقد تقدم القول في الحين؛ وهو هنا وقت غير معين بحسب كل إنسان، إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث‏.‏ ومن هذه اللفظة قول الشاعر‏:‏

أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث